قراءة في كتاب "محاضرات عن الثورة التحريرية الجزائرية"
صدر عن جمعية الثرات الأسبوع الماضي كتاب "محاضرات عن الثورة التحريرية الجزائرية" للدكتور مجمد بن قاسم ناصر بوحجام، هو خلاصة محاضرات وملتقيات قدمها في مناسبات مختلفة داخل وخارج الوطن حول ثورة التحرير الجزائرية، يعرضها الدكتور في أسلوب بسيط، مشوّق وجذّاب، فهذا المؤلف عبارة عن قراءة تاريخية يثري بها أرفف المكتبة الجزائرية.
المؤَّلف كما ورد فيه يهدف من خلاله الكاتب إلى "الدعوة للتعمق في طبيعة الثورة التحريرية الجزائرية، وربطها بالمبادئ التي صدرت عنها ووصلها بالأهداف التي رسمتها حين انطلقت"، ففقه ذلك يضع كل واحد ممن ينتمي إليها بأي سبب أمام مسؤولية الوفاء لها، تقديرا ونقلا لها، وتنفيذا لما دافعت عنه، والتزاما بما دعت إليه وخططت له.
يحتوي هذا الإصدار على مجموعة من المحاضرات وردت في سبعة أقسام:
1- في القسم الأول وتحت عنوان "إرهاصات الثورة في الشعر الجزائري" تناول الدكتور الدور البارز الذي لعبه الشعر في استنهاض همم هذا الشعب لتحريك عجلة الثورة المجيدة، مستشهدا في هذا الصدد بمقولة للدكتورة نور سلمان "حمل الشعر قبيل الثورة إرهاصاتها، معبرا عن النقمة والتململ الرّافض، فصوّر الأوضاع الفاسدة والقلق والتوتر، وساهم في الوثبة، مجاهرا بتسميتها وثبة كفاح وحرب، بعد أن قصر الكلام والحوار السياسي في تحقيق الهدف".
2- وفي القسم الثاني من الكتاب محاضرة "أشكال إرهاصات الثورة في الشعر" بالتطرق لحوادث الثامن من ماي 1945 ويصفها بأنها: "بداية التحول في الكفاح بانتهاج أسلوب أكثر واقعية ونجاعة في الاقتراب من الهدف المرسوم وهو الضفر بالحياة الكريمة بعد الحصول على الحرية.."، ووصف لموقف اندلاع ثورة التحرير ليلة الفاتح من نوفمبر الخالدة، من خلال بعض النماذج لمساهمات شعراء الثورة أمثال الشاعر محمد العيد آل خليفة، مفدي زكريا، محمد بلقاسم خمّار، الربيع بوشامة..والتي كانت أداة فعّالة للتأثير على الشعب، وتوجيهه نحو الدفاع عن حريته واقتلاعها من المستعمر بالقوة، متخذين في ذلك أساليب شتى، كالتلميح تارة، وذكر بشاعة العدو تارة، ومناجاة للتنفيس والترويح لما لا بديل له لتحقيق الحرية، ويختم بالقول أن "الشعراء في عملهم هذا قاموا بفضح دسائس الاستعمار، واتجهوا إلى الرمز والمناجاة، حين لا يجدي التصريح، ولا تنفع المواجهة، وأعلنوا عن التذمر والسخط من الأوضاع المتردية والمتدهورة أخلاقيا وسياسيا ونفسيا...".
3- في القسم الثالث يتناول الحديث عن "مبادئ الثورة الجزائرية" تلك المبادئ التي "تبناها مفجّروا الثورة التحريرية واعتمدوها في عملهم الثوري، التي مكّنتهم من تحقيق هدفهم الأساس وهو الاستقلال الوطني، والتخلص من السيطرة الفرنسية على الجزائر، والسطو على مقدّساتها ومقدّراتها وخيراتها، هذه المبادئ حددت إيديولوجية جبهة التحرير، مفجّرة الثورة وقائدة مسيرتها، وقد استمدت جذورها وسماتها من الأصول الإسلامية وربطت حركتها بالتاريخ الجزائري العام، والكفاح الوطني الشامل، وبذلك ضمنت استمرارية النهج الذي رسمه الأسلاف، ورعاة الأخلاق، وسار على هديه الثوار، وهو ما سجل ديمومة الأمة بمقوماتها وشخصياتها وتحدياتها..."، وصاغ الدكتور بعد ذلك هذه المبادئ التي جاءت استنادا لبيان أول نوفمبر 1954 وهي: العمل وفق المبادئ الإسلامية، المحافظة على الوحدة الوطنية، تحديد الهدف الأساس، الإرادة الذاتية أو الاعتماد على النفس، الإدارة الجماعية للثورة التحريرية، احترام الحريات الأساسية للأفراد والجماعات.
4- القسم الرابع تحت عنوان "كلمة العدد ذكرى وعبرة"، فالذكرى هي احتفال الجزائر بثورتها المباركة بعد ثلاثين سنة من اندلاعها، والعبرة لأنها "رمز للتحدي و الصمود، وتخطي العراقيل، والوقوف أمام الظلم والطغيان"، يثني الدكتور بوحجام على هذه الثورة وما أحدثته نتائجها في الأوساط العالمية، ثم يقدّم نصائح لهذه الأجيال التي تعيش الاستقلال وتنعم به حتى تقوم هي الأخرى بدورها وذلك "بالالتفاف حول الثورة روحا وجسدا، لخوض معركة التشييد والبناء، بعد معركة التحرير والفداء".
5- تطرق الكاتب في هذه المداخلة إلى "أسباب عزوف الشباب عن تاريخ الثورة الجزائرية" فيقول "إن العظمة التي سُجلت للثورة، والمكانة الخاصة التي احتلتها في النفوس الكبيرة، وما قرأه الشباب عن ذلك كله وما سمعوه من أفواه المجاهدين وصانعي أحداثها... إن كل ذلك لم يسعف جيل الاستقلال أن يجد له في بعض الأحيان، وفي بعض المواقف انسجاما وعلاقة كبيرة بينه وبين ما يشاهده في واقع اليوم، في السلوك والشعارات والبيانات...وهو ما حمل الشباب على تقديم أسئلة متتالية: تقويمية، تحليلية ومصيرية عن الثورة التحريرية، وعن مصداقية عمل الثّوار".
6- "شعر الثورة الجزائري سجّل ورسالة"، محاضرة وردت في القسم السادس من الكتاب، حيث أن الشعر استطاع التأثير في مسار الثورة وأن يُلهم هذا الشعب القوة والعزيمة للتحرك نحو الخلاص من عدو ظالم مستبد، يستجيب الشعب ويفجّر ثورته العظيمة انطلاقا من مبادئ آمن بها، ومعاناة من أوضاع عايش حيثياتها، فكان الشعر هو ذلك الملهم للشعب والملازم له، ويذكر الكاتب هنا مقولة للدكتور صالح الخرفي، "إن الشعر الثوري الملتصق بالثورة في سهولها وجبالها، في مغاورها وكهوفها، المنصهر فيها وثبة فدائية في المدن، أو ملحمة عسكرية في الجبال، الملتزم بها كرًّا وفرًّا، هزيمة ونصرا، هذا الشعر يكاد يُكوّن العمود الفقري لإنتاج الثورة.."،يخلص الدكتور ناصر بوحجام بعد ذلك إلى تقديم ثلاثة موضوعات هي، "البطولة"، "الوطن"، "نضال المرأة" كنماذج لدور شعر الثورة الجزائري.
7- آخر قسم خُصّص لموضوع "إسلامية شعر الثورة" يتحدث يقول فيه "الحرب التي خاضها الشعب الجزائري مباركة من الله، بل الله هو الذي دعا إلى محاربة من لا يراعي إلاّ ولا ذمّة. ولا يرعى حقوقا، والشعب بدوره يستنصر الله على من يطغى ويتجبّر...فالتقت إرادة الله في الانتقام من الظالم المستبد برغبة الشعب في نصرة الله، فكان هذا الجهاد الباسل الذي حيّر الأعداء، وأحدث في نفوسهم الفرق، وألقى في قلوبهم الرعب. فتزلزلت حصونهم التي يحتمون بها، وتزعزعت قلاعهم التي يخطّطون فيها"، ويصف في هذا الجزء التصوير المبدع لشاعر الثورة مفدي زكريا في قصيدة "الذبيح الصاعد" للشهيد "أحمد زبانة " وهو يُقاد إلى المقصلة:
قام يختـــال كالمسيــح وئيدا يتهادى نشوان يتلو النشيدا
باسم الثغر كالملائك أو كالط فل يستقبل الصباح الجديدا
شامخــا أنفـه جـلالا وتيهـــا رافعا رأسه يناجي الخلودا
ويعبر الدكتور على الموضوع بالقول أن "الشاعر يصف عرسا، ولا يحكي عن مأتم، إنها الروح الإسلامية، التي تملأ جوانحه، وهو يُقدّر المواقف ويزنها بميزان الإسلام، إنها رسالة الفنان، التي تدعوه أن يرفع من معنويات المجاهدين في الميدان، فيضاعفوا جهودهم، ويقوّوا جهادهم.."، ويضيف قائلا: "هذه هي رسالة الشعر الحقيقية، وهذا هو العمل الإسلامي، الذي يبحث عن الوسيلة المجدية في خدمة الدعوة، فحرب التحرير الجزائرية، هي في صميم العمل الإسلامي...".
في الأخير نورد كخلاصة للموضوع ماجاء على لسان المؤلف بشأن هذا الكتاب، "في هذه القراءات كثير مما قد يقرؤه المتأمّل المتأني، وهو ينظر فيها ويطيل النّظر، يقرأ فيها مسألة المرجعية في التخطيط والتحرّك، والعمل المؤسس على قواعد وأسس صحيحة، والرؤية المستقبلية في التفكير والتدبير، وضبط المفهومات وحسن التعامل معها، تصحيح الحقائق، ووعي الواقعات والوقائع...وغيرها من الدروس والعبر المستفادة من هذه الثورة العظيمة، المثيرة بأحداثها، وانجازاتها ومفاجآتها..."