" القيم إلى أين ؟ " هذا التساؤل الكبير أثار جدلا كبيرا ، وأسال حبرا ، وكان محط اهتمام أكثر من خمسين مفكرا جمعتهم اليونسكو من كل أقطار العالم للتباحث حول مستقبل القيم في ظل التطورات الهائلة التي أصابت عدة قطاعات حيوية جاءت بها ثورة التقنية والأسواق المفتوحة وعممتها وسائل الإعلام والاتصال, وكان هناك شبه إجماع حسب قراءتي لمقالاتهم ومناقشاتهم لهذه القضايا و الأفكار المطروحة ؛ بأن التهديدات هي أعظم من المبشرات ودواعي التشاؤم تحكم معطياتها اشراقات التفاؤل .
لقد رصدت هذه المجموعة من الباحثين والفلاسفة خطورة المستقبل القادم للقيم الإنسانية لا بدعوى التنبؤ بإرهاصاته ولكن من اجل الحماية من تداعياته الكارثية وبالخصوص على مستوى القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية وحتى الدينية ، فقد بدأت تخضع هذه القيم لمنطق العرض والطلب وحاجات السوق الكبير الذي ساحت به العولمة في كل أودية العالم وأصبحت المساومات المادية هي لغة التفاهم بين الدهاقنة أصحاب التمويل وعابري البحار من الشركات المتعددة الجنسية وبين أفراد ومؤسسات الثقافة ومصانع الفكر , وهنا مكمن الخلل الذي يتعدى سوء الاستغلال للتراث الإنساني والقيم النبيلة التي حفرتها مَسلّة المجتمعات البشرية , وهذا ينذر بكساد قيمي قد يحطم المجتمع ويلاشيه ويصبح الناس كالمسامير المتحركة في تلك المجتمعات الميكانيكية أو سلعا رخيصة لاستهلاك الأقوياء وإلهاء الضعفاء .
هذه المقدمة السابقة هي رؤيتي الواضحة لمستقبل القيم في كثير من أنحاء العالم بعيدة عن أي نظارة تختزل الواقع في وردة صغيرة , صحيح أن المجتمعات ليست قالبا واحدا في حجم التأثر بل هناك تفاوتا في القوة والضعف بينها قد يكون مرده إلى العامل الزمني الذي تحدده العولمة في خطتها للانتشار , وفي منطقتنا العربية القطار قد وصل المحطة والركاب ينتظرون الدخول فيه لحجز مقاعدهم في رحلتهم نحو المجهول !.
أعلم أن هذا التشاؤم لا يليق بالمسلم الذي يصنع الخير من معامل الشر ويحطم قيود اليأس بالعمل المثمر ويغرس النخلة ولو قامت الساعة , لكن الفأل المفرط لا يمنع دق نواقيس الخطر القادم من تحولنا إلى سوق كبير يباع فيه كل شي , لذلك خرجت صيحات فلاسفة الغرب هابرماس وبيار وريفكي وتشومسكي وكنيدي وغيرهم بالدفاع عن القيم ولو كانت ناقصة التأثير ،فالحداثة الغربية بمفاهيميها العلمانية قد ماتت في نفوس الكثير وورثتها الحاليين ناقمين عابثين محطمين بناء الأسلاف مهما كان جماله في أعينهم .
أنني أشاهد في مجتمعي تلك الصورة المتكررة للاستغلال وتلك البدايات التي انتهت منها شعوب وذاقت مرارتها ثقافات تريد بسط نفوذها تحت وطئت منتديات اقتصادية يجلب لها متحدثين من العالم يعيدون تنميط الثقافة وإنتاج القيم للناس كما يريدون لا كما نؤمن ونعتقد , لقد اضطروا المثقف والكاتب والعالم لأن يتوقف عن الإبداع والبحث والتأليف حتى يرتفع الطلب أو يبيع ما عنده وفق احتياج السوق , وعليه دائما إذا لم يكن له صديق أو معرّف أن يعدّ الجواب لأسئلة الناشرين كم سيجلب من مال أو يشتريه من أناس ولو بالإثارة التافهة أو الدوس على القيم السامية , هذه الحالة المؤسفة خيوط بداياتها تتفاقم في مجتمعنا وملامحها بدأت تظهر في معارضنا للكتاب وبرامجنا الإعلامية في تحقير العظيم وتعظيم الحقير وتحطيم الوعاة وقراءة سورة يس على مشهدنا الفكري الأصيل ؟!!
بقلم حرش كريم